مؤسسة قطر للتربية والعلوم بيئة لباحثين عالميين

alsharq
محليات 08 سبتمبر 2015 , 02:35ص
محمد صبرة
وصف الدكتور بدران مسعود بن لحسن -الأستاذ المشارك بقسم مقارنة الأديان، بكلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة- مؤسسة قطر للتربية والعلوم بأنها «تجربة رائدة في منطقتنا العربية». وأشاد بدور مركز الدوحة لحوار الأديان موضحا أنه يقوم بدور حضاري للتعريف بالقيم الإسلامية الحضارية وترسيخ ثقافة الحوار. واعتبر كلية الدراسات الإسلامية نموذجا فريدا يؤسس لثقافة جديدة تربط العلم بالعمل وبتنمية المجتمع. وقال في حوار مطول مع «العرب»: إن دولنا تفتقد إلى رؤية شاملة استراتيجية للتنمية وللنهضة. وانتقد هيمنة أنصاف المتعلمين على مراكز القرار في بلادنا، لأنهم «قوة طاردة للكفاءات». وأعرب عن حزنه لحال أمتنا لأننا «أهملنا الكفاءات والثروات ونهدر وقتنا في حلول جزئية مستوردة تضر أكثر مما تنفع. وتحدث عن التغيرات الحاصلة في العالم الآن لافتا إلى أن «العولمة أخطر تحول تاريخي واجتماعي وسياسي واقتصادي» وذكر أن الوسطية الإسلامية سلاحنا لمواجهة «فتنة العلمانية» وحذر من المتصهينين العرب، منبها إلى أن الصهيونية من أهم وأخطر الحركات والمنظمات التي تمثل تهديدا وجوديا لأمتنا. وقال إن عنف وتطرف الجماعات المنسوبة للإسلام سببه الجهل والاستبداد، مؤكداً أن الاستبداد يوظف الجهل، والجهل ينبت الاستبداد، ولو تحقق العدل في الأمة لجف كثير من منابع العنف والإرهاب والتطرف. وأبدى أسفه لأن الحضارة الإسلامية -حضارة الخير والحق والجمال- انتهت تاريخيا وصارت تراثا ماضيا، مؤكداً بقاءها فكريا وقيميا، في حالة «كمون» يحتاج لمن يطبقه على نفسه وينشره على الآخرين. وذكر أن معوقات نهضة المسلمين ترجع لأمراض داخلية اجتماعية وأخطار خارجية استعمارية، مشيراً إلى أن المسلمين تعجبهم كاريزما الزعيم الذي يعتقدون أنه يمتلك جميع الحلول لمشكلاتهم الخاصة، ولا تعجبهم المشاريع الفكرية. ونوه بأن غياب المنهج وتجاهل الإنسان وعدم وجود مشروع ثقافي أبرز أسباب مشكلة الفقر في بلادنا. واعتبر العولمة أخطر تحول تاريخي واجتماعي وسياسي واقتصادي يواجه الأمة الإسلامية. ووصفها بأنها «فتنة» تحتاج لمواجهة بسلاح «الوسطية الإسلامية». وتوقع أن تمر مسيرة الإنسانية بخاتمة عصر وافتتاحية عصر جديد في مسيرة التاريخ. وفيما يلي تفاصيل الحوار:
¶ كيف تقارن مسيرتك الأكاديمية في جامعات سابقة، بعملك الحالي في جامعة حمد بن خليفة؟
- عملي الحالي في كلية قطر للدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة، إذا قورن بمسيرتي في جامعات سابقة، فإنه مميز من نواح عدة:
أولا، أن كليتي الحالية تنتمي إلى مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع. وهي كما تعلم مؤسسة رائدة في العالم العربي والشرق الأوسط، تهدف إلى تحقيق تنمية علمية واجتماعية عن طريق ربط التربية بالبحث العلمي بخدمة المجتمع، وعن طريق توفير بيئة علمية وبحثية فيها الخبراء من مختلف الخلفيات العلمية والأكاديمية، ومن مختلف مناطق العالم.
والحقيقة هي تجربة فريدة في منطقتنا العربية، خاصة إذا علمنا أن من يرأس هذه المؤسسة هي صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر حفظها الله، مما يذكرني بما كان عليه حكام المسلمين في عصورنا الحضارية الزاهية، حينما كانوا يرعون العلم والعلماء ويشرفون بأنفسهم على تحقيق نهضة المسلمين.
ثانياً، أن كلية قطر للدراسات الإسلامية، جامعة حمد بن خليفة، نموذج فريد من الكليات في عالمنا العربي، حيث إنها تقوم على الدراسات العليا فقط وهذا يجعلها كلية بحثية تكون الباحثين والخبراء. كما أنها تتكون، وخلافا للجامعات التقليدية، من برامج تدريسية، ومن مراكز بحثية. وهذا يساعد على الربط بين البحث العلمي والتكوين العلمي، مما يؤسس لثقافة جديدة في وعي خريجيها وأساتذتها، وهو ربط العلم بالعمل، وبتنمية المجتمع.
وهذا في حقيقته مقوم آخر من مقومات حضارتنا الإسلامية، وربط العلم بالعمل، وليس مجرد تكوين نظري.
ثالثا، أن برنامج مقارنة الأديان، الذي أعمل به، برنامج متميز عما هو في الجامعات العربية والإسلامية، وعما هو موجود في الجامعات الغربية.
وذلك أنه يجمع بين إعادة الاعتبار للموروث العلمي الإسلامي في هذا التخصص، كما أنه يأخذ ما وصلت إليه أقسام مقارنة الأديان في الجامعات الغربية من تطور معرفي ومنهجي.
فبرنامج مقارنة الأديان في كلية قطر للدراسات الإسلامية، يتميز عن أقسام مقارنة الأديان في الجامعات العربية والإسلامية، لأن هذه الأخيرة تقليدية جدا في تناولها للتخصص، ولا تكاد تخرج عن مجرد تدريس الأديان من منظور تقليدي.
وكذلك فإن برنامجنا يتميز عن أقسام الأديان في الجامعات الغربية، لأن هذه الأخيرة لا تضع اعتبارا للمنظور الإسلامي ولا للموروث العلمي الإسلامي في دراسة الأديان، وتدرس الإسلام من منظور استشراقي صرف.
بينما قسمنا يجمع بطريقة تكاملية بين البعدين المفقودين في كل من الجامعات الإسلامية والعربية، ومن أقسام الأديان في الجامعات العربية.

كلية الدراسات الإسلامية
¶ انتهجت كلية الدراسات الإسلامية نهجا مختلفا في الدراسة عن باقي الكليات الإسلامية من ناحية الشكل بقصر الدراسة على الماجستير والدكتوراه، وبمنهج ومقررات التدريس المعتمدة في الكلية، كيف تقيمون تجربة الكلية؟
- كما أسلفت سابقا، فإن ما انتهجته كلية قطر للدراسات الإسلامية باعتمادها المنهج التكاملي، الجامع بين التربية والتعليم وبين البحث العلمي، من خلال المزاوجة بين البرامج التدريسية وبين المراكز البحثية التي تهتم بمجالات مهمة في واقعنا المعاصر -جعل الكلية تتميز عن باقي الكليات بأنها كلية تركز برامجها على الدراسات العليا، الماجستير والدكتوراه، والاهتمام بمكتسبات التراث الإسلامي يضاف إليه ما تفضلتم من مقررات التدريس المتميزة.
وإذا جئنا إلى تقييم التجربة، فإنها ما زالت تجربة جديدة، تحتاج أن تعطى لها فرصة لتظهر نتائجها أكثر، وتثبت أنها تجربة متميزة غير مكررة.

استشارية مركز
الأخلاق والتشريع
¶ من خلال عضويتكم في اللجنة الاستشارية بمركز الأخلاق والتشريع، ما طبيعة عمل اللجنة؟ وما خططها القادمة؟
- أنا ممثل الكلية في اللجنة الاستشارية بمركز الأخلاق والتشريع، الذي يرأسه الدكتور طارق رمضان حفظه الله. وقد تم اقتراحي من قبل عميدة الكلية الأستاذة الدكتورة عائشة المناعي حفظها الله وبارك في علمها.
واللجنة عملها استشاري، بحيث تجتمع مرتين في السنة، وتقوم بتقييم أعمال المركز، وتقديم المشورة لإدارته التنفيذية، بما يحقق أهدافه وأهداف كلية الدراسات الإسلامية. حيث نقوم بتقييم مفصل لنشاطات المركز المختلفة، ونسجل ملحوظاتنا أو تحفظاتنا أو تأييدنا أو معارضتنا لنشاط ما أو إنجاز ما، ويرفع إلى الجهات المعنية لتطبيقه.

عظمة الحضارة الإسلامية
¶ من موقعكم كرئيس ومؤسس برنامج ماجستير فلسفة الحضارة، ما رأيكم في مقولة إن الحضارة الإسلامية حضارة ماض، خذلها المسلمون قبل غيرهم، وأصبحت لا علاقة لها بالحاضر؟
- يمكن النظر إلى الحضارة الإسلامية من زاويتين: تاريخية، وفكرية ثقافية. فمن الزاوية التاريخية فإن المسلمين أنجزوا حضارة من أعظم حضارات الإنسانية، انطلقت من صحراء العرب بعد أن أشرق نور الوحي على قلب محمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء في جبل النور بمكة. وهذه الحضارة تميزت بأنها حضارة الخير والحق والجمال، نقلت العرب من رعاة إبل وشاة إلى رعاة أمم، رباهم النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، وأخرج بهم خير أمة أخرجت للناس، وهم ربوا البشرية ونقلوها من الوعي الأسطوري الخرافي إلى الوعي الاستدلالي العلمي، وتربعت تلك الحضارة على قمة السيادة قرونا عشرة، لم يكن ينافسها حضارة أخرى في كل المستويات، وقد انتهت وصارت تاريخا وتراثا ماضيا، وانتقلت الحضارة إلى قوم آخرين بفعل شروط تاريخية سننية، ليس هذا أوان شرحها.
أما من الزاوية الفكرية الثقافية، وهي الجزء القيمي من الحضارة الإسلامية ومنظورها ورؤيته الكونية، فإنها حاضرة ثابتة لا تزال قائمة. ذلك أن الرؤية الإسلامية للكون والحياة التي قامت عليها الحضارة الإسلامية في دورتها الأولى ما زالت رؤية صالحة لأن تبعث منها دورة حضارية جديدة، والقيم الإسلامية التي بنيت عليها الحضارة الإسلامية في دورتها الأولى ما زالت قيما صالحة، بل هي القيم الأصلح للإنسان إلى استهلكته الحضارة المعاصرة واختزلت وجوده في بعده المادي الاستهلاكي.
فمن ينكر أن قيم التوحيد، والخيرية، والوسطية، والحرية، والعدل، والحق، والعقل، والعلم، صارت قيما مستهلكة أو متجاوزة. بل هي القيم التي تنشد البشرية كلها الوصول إليها.
ولكن ينبغي الانتباه إلى نقطة منهجية مهمة، وهي أن هذه القيم الآن في حالة كمون، وغير فعالة، وليست معمولا بها في واقع المسلمين. وهذا لا يرجع إلى عدم صلاح هذه القيم، بل إلى أن المسلمين لم يفعلوها في التاريخ، لم يجعلوها قيما فاعلة، لم يربطوها بالعمل، بل تركوها مفاهيم نظرية.
وهذا في الحقيقة، دور مسلم اليوم، عليه أن ينتقل من مجرد ترديد تلك القيم وتمجيدها، إلى تجسيدها واقعا في صورة منجزات حضارية مادية ومعنوية تساهم في إنقاذ الإنسانية، وإنقاذ المسلمين قبل ذلك وتحقيق نهضتهم.

حوارات الأديان
¶ بعد تجربة تعاونكم مع مركز الدوحة لحوار الأديان، ما تقييمكم لحصيلة الندوات والمؤتمرات والجهود المبذولة في الحوار بين الإسلام والديانات الأخرى، هل هي تضييع وقت وشو إعلامي كما يقول كثيرون، أم أنها ذات فائدة وحققت نتائج ملموسة؟
- في تصوري المتواضع مركز الدوحة لحوار الأديان يقوم بدور ثقافي وحضاري مهم.
فمن الناحية الثقافية نحن، وانطلاقا من كوننا مسلمين، فإننا مبدئيا منفتحون على الحوار مع الجميع، وهو مبدأ قرآني مهم، خاصة أن المسلم يؤمن بأنه ينطلق من رسالته الخاتمة التي هي للناس أجمعين، فينفتح على الآخر المخالف والموافق له، ليحاوره في المشترك وفي المختلف، إما لدعوته للحقيقة الإسلامية، وإما لتعميق التعاون والوجود المشترك.
وهذا في تصوري جهد مهم يقوم به مركز الدوحة، من خلال ترسيخ ثقافة الحوار منطلقا من إيمانه العميق بعالمية الإسلام وعقلانيته وروحانيته التي هي ملجأ لجميع البشر.
أما من الناحية الحضارية، فأحسب أن الحضارات اليوم في أمس الحاجة للتحاور والتواصل والتعارف، خاصة في عصر العولمة هذا، وفي زمن صارت الإنسانية مهددة بكوارث وأزمات أخلاقية وطبيعية وسياسية. وكذلك وانطلاقا مما تشهده المنطقة من محاولات إلصاق التهمة بالمسلمين وأنهم مصدر الإرهاب، وأنهم منغلقون على أنفسهم، وأنهم لا يقبلون الآخر، فإن مركز الدوحة لحوار الأديان يقوم بدور حضاري للتعريف بالقيم الإسلامية الحضارية، ولطرح القضايا المصيرية التي تمس البشرية، للنقاش والحوار، بعيدا عما تحاول بعض القوى الكبرى فرضه كمفهوم وحيد لكثير من المصطلحات.
والحوار عادة يقوم على النقاش العلمي الهادئ الأخوي، الذي يحكمه منطق الحقيقة، وليس منطق القوة، الذي يهيمن على السياسة الدولية.
والمتابع للمؤتمرات السابقة التي قام بها المركز، وقد حضرت الأخير منها، نجد أنها كلها تتناول قضايا مهمة ومصيرية، وينبغي أن يكون للمسلمين والعرب رأي مسموع فيها، في المحافل الدولية.

التفريط في الكفاءات
¶ أمتنا تفرط في كفاءاتها البشرية وثرواتها الطبيعية.. هل ترون هذا التفريط متعمدا أم عن جهل؟
- لا أظن أن التفريط في الكفاءات ناتج عن تعمد، بل لأن دولنا تفتقد إلى رؤية شاملة استراتيجية للتنمية، وللنهضة، ولهذا فهي تتخبط في اتجاهات متعددة. فمرة تتجه للكفاءات، ومرة تعتمد على الثروات، ومرة تتجه للاعتماد على الاستيراد، استيراد الخبرات والمواد.
والحقيقة أن غياب الرؤية الاستراتيجية أدى إلى تجاهل قيمة الإنسان، وتجاهل قيمة الكفاءات وأهميتها في استنبات التكنولوجيا والتنمية محليا. كما أن هيمنة أنصاف المتعلمين على مراكز القرار أدى بهم إلى أن يكونوا قوة طاردة للكفاءات سواء بالإهمال والتجاهل، أو عن طريق التضييق على الكفاءات.
ومن جهة أخرى فإن ذهنية «الريع» لدى قيادات أمتنا أدى بها إلى الاعتماد على الثروات الطبيعية وما تدره من دخل بتصديرها، وكان الأولى ترشيد استعمال هذه الموارد الطبيعية، لأنها هي الكنز الاستراتجي إضافة إلى الإنسان.
وكان الأولى استغلال تلك الكفاءات التي تزخر بها الأمة، وإعطائها الفرصة لتستغل ثرواتنا الطبيعية وتحولها إلى رأسمال متحرك منتج وعلى صناعات محلية، بدل تصديرها خاما، وإهدارها بطريقة مفجعة لا تراعي مستقبل الأجيال.
وأذكر بما كان مالك بن نبي يكرره دائما، ولكن لم تفقهه قياداتنا السياسية في عالمنا الإسلامي عموما والعربي خصوصا، وهو أن النهضة والحضارة تقوم على (الإنسان، والتراب، والوقت) في وسط مشبع بالفكرة الدينية الإسلامية التي تؤلف بينها وترفع من همة الإنسان، وتوجهه إلى فعل تاريخي منتج.
ولكننا أهملنا الإنسان (الكفاءات)، وأهملنا التراب (الثروات)، ونهدر وقتنا في تجربة حلول جزئية مستوردة تضر أكثر مما تنفع. فصرنا نستثمر في تخلفنا، ونزيد أمتنا ارتكاسا وبعدا عن طريق النهضة والحضارة.

الحاكمية والتطرف
¶ ما خلاصة ما كتبتم في «الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية، وهل صحيح أن فكر الحاكمية هو سبب العنف والتطرف الذي تسلكه بعض الجماعات المعاصرة مثل داعش والقاعدة وغيرهما؟
- الحقيقة أن الموضوع الذي ذكرتموه هو عبارة عن قراءة قدمتها عن رسالة دكتوراه بهذا العنوان، وتناول فيها صاحبها مفهوم الحاكمية بين السياقين العربي الإسلامي والغربي، من زاوية معرفية فلسفية، وكذلك بعض الأبعاد السياسية لهذا المفهوم.
وفي تصوري أن مسلك العنف والتطرف الذي تسلكه بعض الجماعات المعاصرة، ثمرة لعدة عوامل، لعل أهمها الاستبداد الجاثم على صدر الأمة وغياب الحريات، وكذلك الجهل سواء بشرع الله أو بالعلوم الأخرى التي تساهم في تقدم الإنسانية.
والاستبداد يوظف الجهل، والجهل ينبت الاستبداد، ولو تحقق العدل في الأمة لجفت كثير من منابع العنف والإرهاب والتطرف، ولو انتشر العلم بين أفراد الأمة لما احتجنا إلى فكر الحاكمية، بغض النظر عن اختلاف وجهات النظر فيه هل كان سببا للعنف والتطرف أم لا.
ذلك أن العدل والحرية يفتحان الآفاق أمام الفكر القويم الوسطي المعتدل، وأمام إنسانية الإنسان أن تنطلق لتحقق مقاصد الخالق من الخلق، وتفتح المجال للجميع ليساهم في البناء بدل الهدم، ولا يترك المجال لمثل هذه الجماعات أن تنتشر في الأقبية والكهوف والظلام، والعلم يؤسس لمفاهيم مؤسسة علميا، بعيدة عن تحريفات الغالين وانتحالات المبطلين وتأويلات الجاهلين كما جاء في الحديث.

العولمة والتجديد
¶ كتبتم بحثا عن العولمة ومنعطف التجديد، ما خلاصة هذا البحث؟
- في هذا البحث الذي نشرته في 2006، أكدت فيه على أن من الحقائق الأساسية التي تجابه الإنسان في عصرنا، أن النموذج الحضاري الغربي أصبح يشغل مكانا مركزيا في وجدان معظم المفكرين والشعوب، وليس من المستغرب أن يحقق نموذج حضاري له مقدرات تعبوية وتنظيمية مرتفعة انتصارات باهرة، على المستويين المعنوي والمادي كما يقول العلامة المسيري.
ونحن نلاحظ كيف أن التعامل مع الحضارة الغربية الغالبة أخذ -منذ أخريات القرن الثامن عشر- صيغة الانبهار الذي دفع كثيرين من قيادات الأمة الإسلامية ونخبها وعلمائها، وأبنائها عموما، إلى الأخذ غير المتبصر عن هذه الحضارة، أو ما سماه مالك بن نبي «التكديس»، الذي يستورد ويراكم الخبرات والأشياء، ولكنه لا يصنع حضارة، أو يعيد نهوضها من جديد؟!
ومكمن الخطورة في هذا الأخذ أنه لم يميز بين الأشياء والأفكار. فإذا كان في الحالة الأولى يمارس عملا مشروعا، فإنه في الثانية يقتحم عقل الأمة وعقيدتها وثوابتها التصورية وخصائصها الأساسية بجملة من المفردات التي تلحق الدمار بمقومات الشخصية الإسلامية، وتقودها إلى الخروج من ساحة الاحتكاك الحضاري، وقد فقدت ذاتها وأصبحت -في نهاية الأمر- تابعا يدور في فلك الآخر.
ولقد جاءت معطيات العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وبخاصة بعد زوال الاتحاد السوفيتي، وغياب التعددية القطبية التي تحكم العالم، وانفراد الولايات المتحدة الأميركية بالقيادة السياسية والعسكرية والحضارية، فيما أطلق عليه «النظام العالمي الجديد»، وانكشاف المواجهة بين هذا النظام وعالم الإسلام، وظهور العديد من النظريات والآراء التي تمنح الخلفيات الفلسفية للوضع الجديد، وتعطيه مبررات التنامي والاستمرار، وبخاصة نظرية «نهاية التاريخ» لفرانسيس فوكوياما، ونظرية «صراع الحضارات» لصموئيل هنتنجتون، التي تبرر لتحكم الزعامة الأميركية وبطانتها الصهيونية بمصائر الأمم والدول والشعوب، وتضع مقدراتها المالية والاقتصادية -في نهاية الأمر- تحت قبضتها، تفعل بها ما تشاء، من أجل تحقيق أهداف مراكز الهيمنة الغربية على حساب الأمم والدول والشعوب، وبخاصة تلك التي قدر لها أن تمتد جنوبي خط طنجة (جاكرتا) الذي سبق أن تحدث عنه مالك بن نبي، والذي قسم العالم إلى شمال وجنوب، أو عالم الكبار والصغار، أو الأغنياء والفقراء، أو الأقوياء والضعفاء، جاء هذا كله لكي يضع الأمة الإسلامية قبالة شبكة جديدة من التحديات التي تزيد في تضييق الخناق على وجودها الحضاري، وتهدد بإلغاء شخصيتها وإلحاقها -في نهاية الأمر- بكيان الحضارة الغربية الغالب، وصولا إلى ظاهرة العولمة وما جلبت معها من تحديات.

أخطر تحول تاريخي
وتمثل العولمة أخطر تحول تاريخي واجتماعي وسياسي واقتصادي ظهر قبل نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين. وجاءت العولمة كمولود للنظام العالمي الجديد الذي تشكل تحت تأثير أربع ثورات أساسية خلال العقد الأخير من القرن العشرين.